الصوم والحدود
قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾[1].
قال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته.
وحقق الراغب أن الرفث كلام متضمن لما يستقبح من ذكر الوقاع ودواعيه، وجعل كناية في هذه الآية على جوازه. والرفث في غير هذه الآية هو الفحش في الكلام كما سيأتي، ويقصد به في هذه الآية الإفضاء إلى النساء بحاجات الرجال منهن، وهذا التعبير من عظيم أدب القرآن.
وقد وردت أخبار في سبب نزول هذه الآية قد توهم بعض الناس فيها التعارض، وليست بحمد الله متعارضة، لأنه اجتهاد من الصحابة ناشئ عن الإجمال المفروض في الصيام، فأتى الله ببيان في هذه الآية، وذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا من قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) أن التشبيه يتناول كيفية الصوم، فحصل لبعضهم أن نام قبل أن يفطر ثم استيقظ فواصل صيامه إلى اليوم الثاني، وكان عاملاً، فأضره الصيام حتى غشي عليه، وبعضهم وقع على أهله في الليل وتحرج مما فعل، فارتفعت الشكاوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله هذه الآية التي ظن بعض المفسرين أنها ناسخة لقول الله تعالى:(كما كتب على الذين من قبلكم) وبعضهم قال: ليست ناسخة، وهو الصواب، لأنها مبينة للإجمال الذي فيها، وأن التشبيه ليس عاماً من كل الوجوه كما فهموه باجتهادهم وحصل عليهم الحرج، وإنما هو تشبيه منه تعالى في الفرضية لا في الكيفية، فكانت هذه الآية الكريمة مبينة لما امتاز به صومنا من الرخصة والتسهيل الذي لم يحظ به من قبلنا، وأن كيفية صومنا مغايرة لصوم من قبلنا. ففي هذه الآية تسهيل على المجتهدين من الصحابة بكيفية الصيام ممن سلكوا الأحوط في الشدة يرونه أقرب للتقوى، فجاءهم من الله اليسر الموعودين به.
وقد ذكر بعض المفسرين حديث قيس بن صرمة بكسر الصاد وما جرى من عمر بن الخطاب وكعب بن مالك في الحديث الآخر في أسباب النـزول، وما أدى إليه اجتهادهم وخشيتهم لله حتى حصل لهم التيسير، فقوله تعالى:(أحل لكم) لا يقتضي أنه كان محرماً من قبل وإنما هو لدفع التوهم الذي أدى إليه مفهوم المجتهدين حيث لم يرد تنصيص على تحريمه قبل نـزول هذه الآية وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم هو جري على عادته في إقراره الاجتهاد بتفسير المجمل قبل أن يأتي بيانه، ويجوز أن يكون محرماً بسنة لم يصل إلينا خبرها الظاهر من السياق.
وقوله سبحانه وتعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) فيه تعليل واضح لرخصة المباشرة والقربان، فهو قول مستأنف ساقه الله لبيان سبب الحكم من كونهن لباس لكم وأنتم لباس لهن فسمى امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباساً لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيهاً بالثوب كما قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثني جيدها
تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضاً:
لبست أناساً فأفنيتهم
وأفنيت بعد أناس أناسا
فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قلَّ صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن، فلذلك رخصت لكم في مباشرتهن. وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وواراه لباس، فجائز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل، كما ورد الخبر:(من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه).
وقال ابن زيد: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن: يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الوقاع عن أبصار الناس. وقيل وجه التشبيه أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان فيضم كل واحد جسمه إلى جسم الآخر حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سمى كل واحد منهما لباساً.
وقال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن. وقيل: بل جعلها لباساً للرجل من حيث أنه يخصها بنفسه كما يخص لباسه بنفسه ويراها أهلاً لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس وهي كذلك، وقيل: يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يستتر الإنسان بلباسه عما يضره أو ينظر إليه.
وقد نقلت أقرب الأقوال للصواب مما قيل في هذا التشبيه، وأقربها أن الملابسة المخالطة، فكل من الزوجين خالط الآخر وعرف دخائله فهو ملابس له، كما أن كلًا منهما ستر لصاحبه في الإحصان عن الوقوع في الفاحشة.
وقال الواحدي: إنما وحد اللباس بعد قوله (هن) لأنه يجري مجرى المصدر (وفعال) من مصادر فاعل وتأويله (هن ملابسات لكم)، وقوله سبحانه وتعالى:(علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) يعني تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. فالاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، فيه شدة وزيادة، ولم يقل (كنتم تختانون الله - كما قال - لا تخونوا الله) بل قال (كنتم تختانون أنفسكم) لقدم حصول القطع بالتحريم، فكان فعلهم عبارة عن عدم الوفاء بما هو خير للنفس، ولو حصل القطع بالتحريم فالخائن لله خائن لنفسه حيث يعرضها لعقوبات الله وسخطه، وقيل: المعنى أن الله يعلم أنه لو كان ذلك التكليف الشاق لوقعتم في الخيانة.
(أقول): وهذا حصوله بعيد من المؤمنين إلا في النادر، والمعنى مستقيم في التعبير بالخيانة، سواء كان التحريم حاصلاً أو تصوروه عن اجتهاد منهم كما مضى، فضيقوا على أنفسهم فهم عاصون، سواء كان بحسب اعتقادهم الاجتهادي أو بحسب الواقع، إنهم محتاجون إلى التوبة والتسهيل.
فلذا قال سبحانه وتعالى: (فتاب عليكم وعفا عنكم)، فإن كان ذنبهم بتحريم المباح عليهم في ليالي الصوم أو التورع منه لاعتقادهم مشابهة صيامهم لمن قبلهم في الكيفية فتفسر التوبة بالرخصة ويفسر العفو بالتسهيل والتخفيف، كما في قوله (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق) وقوله (آخر الوقت عفو الله). وإن كان ذنبهم اقتراف ما فهموا تحريمه ولابسوه فالتوبة على ظاهرها يعني أن الله قبل توبتكم لعلمه إخلاصكم ومراقبتكم له وعفا عن خيانتكم لأنفسكم، لأن العفو يحتمل العفو من الذنب ويحتمل الرخصة والتسهيل، والتوبة تحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من المذنب التائب المنيب. وثانيهما: التخفيف بالرخصة كقوله تعالى:(علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) يعني خفف عنكم. وقوله:(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) وهم لم يحصل منهم ما يوجبها.
وقوله سبحانه وتعالى: (فالآن باشروهن) المباشرة هي التصاق البشرة بالبشرة أو ملامسة الشيء للشيء، وهي هنا كناية عن العمل الجنسي بين الزوجين، فهي كالملامسة حقيقة وكناية. وهذا التعبير من أدب القرآن ونـزاهته.
والمعنى: فالآن باشروهن بعد ما جرى منكم من الاختيان لأنفسكم نتيجة تصوركم تحريمه. وهذا الأمر الصريح للإباحة النافية لما توهموه أو الناسخة للمنع على إحدى القولين، وهو من يسر الدين وسماحته رفقاً بالمكلفين.
وقوله سبحانه:(وابتغوا ما كتب الله لكم) يعني ليكن هدفكم من المباشرة هو المقاصد الشرعية التي شرعت لأجلها من إعفاف كل واحد لصاحبه وإحصانه، وقصد تكثير نسل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا لمحض الشهوة الجنسية التي يشارككم فيها البهائم، فإن التمتع باللذة إذا كان مصحوباً بتلك المقاصد حصل فيه الثواب على حسب صدق تلك النيات وقوتها، وإذا خلا من ذلك كان تمتعاً بهيمياً.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث الفقراء:(وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه الإمام مسلم.
وهذا من جملة النصوص الموضحة موقف المسلم في جميع أحواله أن يكون عقائدياً حتى لا يلتقي فيها مع الكفار الذين تتساوى أهدافهم مع البهيمية في أغلب الأحوال، بل تكون جميع حركاته وسكناته مرتبطة بالله خادمة لدينه ليكون محفوظاً بألطاف الله، حائزاً على رضوانه ومثوبته، فالقرآن يوقظ شعور المؤمن نحو عقيدته والتزام مرضاة ربه في كل شيء حتى في اللذة الجنسية.
وتتضمن عبارة الآية النهي عن المباشرة المحرمة التي لا يقصد بها التناسل أو ليست محلاً للتناسل مما لم يكتبه الله كالزنى واللواط ولو في الزوجة كما سيأتي بحثه عند قوله تعالى: (فأتوا حرثكم) فإن المقصود الشرعي من التزاوج حصول الذرية وإعفاف نفسه ونفس زوجته عن الزنى بالاستغناء في الحلال.
ومما كتب الله علينا ابتغاءه في هذه الآية الاجتهاد في العبادة التماساً لليلة القدر الشريفة التي من حرمها فقد حرم الخير، وأن لا ننشغل عنها بتلك اللذة، فإن ما كتبه الله لنا من التعفف بحلائل النساء وطلب الذرية يجب أن يكونا موصولين بالله لا مجرد شعور حيواني مقصور على الجسد ومنفصل عن المقصود الأسمى والأفق الأعلى الذي يتجه المسلم المؤمن إليه.
وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة (واتبعوا ما كتب الله لكم) من الاتباع، وجوزه ابن عباس مع ترجيحه القراءة المشهورة (وابتغوا) يعني اطلبوا الرخصة والتوسعة فيما كتب الله إباحته مع اعتبار المقاصد الحسنة فيه كما قدمنا.
وقوله سبحانه وتعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فيه تحديد واضح قاطع لمدة الإفطار والتمتع بالمباح طيلة ما ينطبق عليه مسمى الليل حيث ضبط الله بحروف الغاية وهي (حتى وإلى) فحتى غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر يعرف به، ولذا جاءت الآثار التي مضى على العمل بها أهل الأمصار تحديد الفجر بالبياض المعترض بجنة ويسرة، وهو الفجر الصادق، بخلاف البياض الأفقي المستطيل، ففي حديث ابن مسعود إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه. وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: هما فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه يحل الصلاة ويحرم الصيام. ورواه الدار قطني مرسلاً. والخيط في اللغة عبارة عن اللون. والفجر هو أول بياض النهار المستطيل المنتشر في الأفق من تباشير ضياء الشمس، وأصله الشيء المنفجر.
وأخرج البخاري عن عدي بن حاتم قال، قلت: يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين. ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار) وذلك لأن ما يبدو من البياض يرى ممتداً كالخيط، كما قال الشاعر:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق
والخيط الأسود جنح الليل مكتوم
وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي: (إنك لعريض القفا) لفظة يكنى بها عن عدم الفطنة، وقد أورد البخاري حديث عائشة أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر). قال البخاري: قال القاسم - ولم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا.
وذكر الحافظ في شرحه الروايات في معناه عند الإمام مسلم، وفي السنن الناطقة بأن أول النهار الذي يجب به الصيام الفجر الصادق. ثم قال: وذهب جماعة من الصحابة، وقال بن الأعمش من التابعين، وصاحبه أبو بكر بن عياش إلى جواز السحور إلى أن يطلع الفجر، فروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة. قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه.
وروى ابن أبي شيبة وعبدالرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة. وروى ابن المنذر هذا وغيره حتى روى عن أبي بكر أنه قال: لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار. انتهى باختصار.
وهذا مبني على ما ذكرته سابقاً من حد الغاية بحرف (حتى) أنه لا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر يعرف به، وينبغي أن يعلم أن انتشار ضوء الفجر لا يعرف في الليالي المقمرة ولا بالشوارع المستنيرة بأنوار الكهرباء وإنما يظهر انتشاره في الليالي المظلمة والأماكن الخالية من الأنوار، وحسبنا أن نعرف فسحة الله للصائمين فنخالف أهل التشدد والتنطع، وأن لا نعتبر ما يزاد في الحساب من الدقائق للاحتياط مما هو من مبالغة الخلف في تحديد الظواهر مع التفريط في إصلاح الباطن بالتقوى عكس ما عليه السلف الصالح، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، قال بعض رواته كان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت رواه الشيخان وغيرهما.
وبما أن في الآية نص قاطع على تحديد وقت الأكل بغاية طلوع الفجر ثم إتمام الصيام إلى الليل، فعلى هذا من أكل أو شرب يظن عدم طلوع الفجر فصومه صحيح مهما بلغ به الشك، وذلك لاستصحاب حكم الليل وعدم تيقن طلوع الفجر الذي هو نهايته وغايته، وعلى العكس من أفطر قبل غروب الشمس يظنها قد غربت فإنه يبطل صومه لأنه مطالب بإتمام الصيام إلى الليل الذي لا يبتدئ إلا بغروب الشمس فاستصحاب حكم النهار بالصوم واجب عليه حتى يتيقن دخول الليل الذي هو نهاية الصوم وغايته.
وفي الآية دليل على استحباب السحور وتأخيره كما أيدت السنة ذلك، كما أن في الآية دليل على عدم الحرج في الجنابة بعد طلوع الفجر، لأن لازم إباحة الجماع إلى الفجر يلزم منه ذلك ولازم الحق حق.
وفي قوله سبحانه وتعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) نص صريح على حد وقت الصيام ووجوب الإفطار، وأن الصائم يعتبر مفطراً حكماً عند دخول الليل حال غروب الشمس ولو لم يأكل شيئاً، وقد وردت السنة بتعجيل الفطور، كما وردت بتأخير السحور، والكل في أحاديث كثيرة أقتصر منها على ما رواه الإمام البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم). وعلى ما رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). وأخرج في الموطأ عن مالك بن أنس أنه سمع عبدالكريم بن أبي المخارق يقول: (من عمل النبوة تعجيل الفطر والاستيناء بالسحور) مكتفياً بذلك عن سرد الأحاديث الكثيرة.
ويظهر من نص هذه الآية عدم جواز الوصال، أي مواصلة الليل مع النهار في الصيام. وقد تضافرت الأحاديث وتكاثرت على النهي عنه، لأن فيه مشابهة لأهل الكتاب، وانهاك للأبدان، وإضعاف للقوى، ومخالفة للظاهر، وتشديد مناف للدين.
وقد أخرج البخاري وغيره عشرات الأحاديث في النهي عنه أقتصر منها على ما رواه عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فقالوا: إنك تواصل. قال: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى). وفي رواية أنس بن مالك:(إني أظل يطعمني ربي ويسقيني).
وقد حدث فيما بعد قوم من المؤمنين أجازوا الوصال معللين النهي بأنه يضعف الأمة عن الجهاد ويبغض ضعفاء الإيمان للدين، وأنه لما استحكم الإيمان في قلوبهم، ورسخ في صدورهم، وكثر المسلمون واعتزوا على أعدائهم، جاز الوصال لهم ليلزموا أنفسهم أعلى المقامات، ولكن تعليلهم هذا ليس كافياً في تحريمه حتى تسوغ لهم إباحته بل هناك علة المشابهة للكفار، وعلة العسر والحرج والمشقة، كلها باقية وكلها منافية للدين.
ولا يجوز إبطال النصوص بالرأي. ثم إن هذا ليس مما فهم النهي عنه بالقياس لعلة دورية يدور الحكم فيه مع علته وجوداً وعدماً حتى يصح القول بإباحته، وإنما هو محرم بالنص القاطع المبين فيه العلة الفارقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وهي أنه عليه الصلاة والسلام يطعمه ربه ويسقيه بخلاف أفراد الأمة.
وينبغي أن يعلم ضرورة استصحاب النية في الصيام طيلة النهار، كما أن تبييت النية قبل الفجر واجب، فإن العزم على الفطر أو التردد فيه مخل بالصوم، لأن الأعمال بالنيات، فاستصحاب حكمها واجب كبدايتها على الأرجح.
وقد سبق التنبيه على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، لأن الصوم لا يشترط له الطهارة، ولأن إباحة الجماع قبل الفجر تستلزم حصول الجنابة ولازم الحق حق، ولأنه وردت أحاديث كثيرة في ذلك نقتصر منها على ما رواه البخاري ومسلم والإمام مالك في الموطأ والترمذي والنسائي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم). وما رواه مسلم عن عائشة أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، قال: تدر كنى الصلاة وأنا جنب فأصوم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى).
وقد تركت ستة عشر حديثاً للاختصار. ثم إن ههنا فوائد:
(أحدهما)ً تعدية الرفث بإلى في قوله (إلى نسائكم) ولم يقل مع نسائكم ونحوه. فقال الأخفش: إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء كما في قوله (وقد أفضى بعضكم إلى بعض).
(الثانية) أن الله جعل لوجوب الإمساك عن الطعام والشراب وقتاً واضحاً لا شبهة فيه، وهو طلوع الفجر الصادق الذي ينتشر فيه البياض من المشرق تباشيراً لطلوع الشمس، وهو ما عبر عنه الشاعر المتنبي بقوله:
وهبني قلت هذا الصبح ليل = أيعمى العالمون عن الضياء؟
ولكن البشر تغلب عليهم طبائعهم حتى في مواطن العبادة، فمنهم من يتنطع ويشدد على نفسه بحجة الاحتياط، وبعضهم يغلب عليه التساهل في جميع الأمور وبعضهم يسلك الوسط بين الإفراط والتفريط فيسير على مقتضى الشريعة الغراء، فهذا هو سبب الاختلاف في تحديد ابتداء الصوم، هل هو الفجر الصادق أو انتشار البياض للناس بصفة أكثر، مع أن قواعد الدين مبنية على اليسر في معرفة التكليف وثبوته وحدوده وأنها وسط بين إفراط الغلاة المتشددين وبين تفريط المتساهلين المتميعين، وليس فيها شيء من العسر ولا الغموض بحمد الله.
فعلى المسلم سلوك الوسط ومراعاة القواعد بلا تشديد ولا تميع، وأن يحرص على الاتفاق مع إخوانه المجاورين له ببلده في العبادة دون إظهار خلاف، فإن الخلاف يحصل به العيب والازدراء والنفرة وزوال الثقة، إلى غير ذلك من موجبات الانحلال والتفكك في المجتمع فالفجر الصادق هو الذي يتضح به بياض النهار وفاصلاً من سواد الليل.
(الثالثة) من أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح، سواء كان الصوم فرضاً أو نفلاً، لقوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)[2] ولما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه).
ووردت أحاديث غير ذلك، لكن المالكية حملوا هذا على صوم النفل، وهذا تخصيص بلا مخصص، وتأويل بلا مسوغ، ويلزمهم من قولهم ببطلان الفرض أن يسقطوا الكفارة عمن جامع بعد أكله لكون صومه باطلاً، فلم يكن الجماع جناية على صوم باطل، وهذا في اللوازم الفاسدة التي تلزمهم على قولهم. أما على القول بنص الحديث وظاهره بعدم البطلان فالمجامع بعد الأكل عليه الكفارة لأنه جنى على صوم صحيح، وأما من جامع ناسياً ففيه ثلاثة أقوال عند الإمام أحمد وغيره:
(أحدها) لاقضاء عليه ولا كفارة لعموم الأدلة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون.
(ثانيها) عليه القضاء بلا كفارة وهو قول مالك أيضاً، ويشكل على مذهبه.
(ثالثها) عليه الأمران ولكنه مخالف لظواهر النصوص الشرعية، فالأرجح هو القول الأول لموافقته النصوص، فإن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً فلا إثم عليه كما قال صلى الله عليه وسلم:(عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وقد ذكرنا الفرق في الخطأ سابقاً لوجوب البقاء على الأصل واستصحاب الحال في وقت الحل والحرمة، مع أن الحديث الذي رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس) وهذا يدل على شيئين:
(أحدهما) أنه لا يستحب التأخير عند وجود الغيم حتى يتيقن الغروب فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الصحابة أعلم وأطوع لله ممن جاء بعدهم.
(ثانيهما) عدم وجوب القضاء لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم به، وقد يرد الإشكال من كلام هشام بن عروة لما قيل له: أمروا بالقضاء؟ قال: أو بد من القضاء؟ لكن يقال إنه قال هذا برأيه، إذ لم يرد في الحديث ذكر للقضاء فإنه ليس عنده علم بذلك، كما روى معمر قال: سألت هشاماً فقال: لا أدري قضوا أم لا؟ كما ذكره البخاري عنه. وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء.
وقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) هو استثناء من إباحة عموم المباشرة في الليل، كالاستدراك لحرمة الاعتكاف: والاعتكاف: لغة ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه حقاً كان أو باطلاً، ومنه قوله تعالى:(يعكفون على أصنام لهم - ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون). والاعتكاف الشرعي: هو الخلوة إلى الله بالمكث في المساجد تقرباً إليه، وهو من الشرائع القديمة، ولذا قال الله لخليله إبراهيم:(وطهر بيتي للطائفين والعاكفين). وقال الشاعر:
ظل بنات الليل حولي عكفاً = عكوف البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازماً للعمل بطاعة الله لزمه هذا الاسم مدة اعتكافه، ولا يصح إلا في المسجد، وقد نهى الله المعتكف عن عموم المباشرة التي حقيقتها ملاقاة البشرتين، سواء الجماع أو المداعبة والتقبيل، لئلا ينصرف قلب المعتكف عن الله إلى غيره من الشهوات المشغلة له عن إتمام قربته، فإن باشر بالجماع بطل اعتكافه وحبط أجره، وإن باشر بما دونه من غير إنـزال لم يبطل، بل أتى بعمل مكروه ينقص من أجوره وحظوظه العالية، وهذا إذا قصد بها التلذذ، فأما الذي لا يقصد منه التلذذ، كملاحظة الشعر أو البدن من القمل وكحك الأوساخ أو ترجيل الشعر، فلا بأس به، لأن عائشة كانت ترجل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف.
وقوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها) تلك إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي من أول الكلام في الصيام وأحكامه وملابساته. (حدود الله) محدوداته التي قدرها بصفات مضبوطة ومقادير محدودة. وحد الشيء: مقطعه ومنتهاه.والحدود: الحواجز، وحد الدار: ما يمنع غيرها من الدخول فيها. وسمي الحديد حديداً لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وحدود الله ما يمنع من مخالفتها. وسميت حدوداً لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها وأن يخرج منها ما هو منها.
وقوله سبحانه:(فلا تقربوها) مبالغة في التحذير وإرشاد إلى الاحتياط فهو أبلغ من قوله في حدود الله بالطلاق (فلا تعتدوها) فنهى عن مجرد القرب لتكون منطقة أمان، لأن من قرب من الحد أوشك أن يعتديه، كما قال صلى الله عليه وسلم:(كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).
فالإنسان لا يملك نفسه في كل وقت، فقد تجر المداعبة إلى فعل ما يحرم فيفسد صومه أو اعتكافه، وقد يبالغ في المضمضة فيبتلع الماء، أو يباشر مباشرة خارجية فينـزل، ونحو ذلك من مقاربة الحدود التي ينبغي الابتعاد عنها والتحفظ منها.
وقد حذرنا الله من قربان حدوده في آية الصيام هذه، وآية الزنى، وآية مال اليتيم، لما يترتب على القربان في هذه الأشياء من عظيم المفاسد وشناعة الجريمة، فاتقاؤها بعدم المقاربة أسلم، والنهي عن قربان حدود الله حسياً يشمل قربانها معنوياً بالتأويل والتحريف وإخضاع نصوصها للأهواء والآراء، بل ينبغي قبولها بمحض التسليم والاتباع.
وفي هذه الآية تخطئة لمن يعمل باجتهاده في أمر ديني يجب عليه فيه مراجعة نصوصه، كما فيها إشارة إلى سلوك الاحتياط اليسير في الإمساك والإفطار بدون تنطع، بشرط أن لا ينفرد باحتياطه عن جماعة المسلمين، وأن لا يعارض النصوص الواردة بتعجيل الفطور وتأخير السحور، فإن مخالفة السنة لا تجوز باسم الاحتياط ولا غيره، ثم إن ههنا فوائد:
(أحدها) قال بعض الصحابة والتابعين وبعض العلماء في سائر القرون: لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد التي بناها نبي، كالمسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، وقد احتج بعضهم بقوله تعالى:(وطهر بيتي للطائفين والعاكفين)، وبعضهم احتج بحديث:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، ولكن آية الصيام تبطل احتجاجهم مع قول الأكثرين بصحة الاعتكاف في كل مسجد. وقال بعضهم بتخصيص المسجد الذي تقام فيه الجمعة حتى لا يضطر للخروج منه إليها، والصحيح حمل الآية على عمومها في كل مسجد.
(ثانيها) أقل الاعتكاف يوماً وليلة، فلو نذر الاعتكاف ليلة لزمه اعتكاف يومها معها، وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه اعتكاف ليلته، وقال الشافعي وبعض الأئمة والعلماء: لا حد للاعتكاف فلا يقيد بيوم وليلة.
(ثالثها) قال بعضهم: لا يجوز الاعتكاف بغير صوم، والمشهور جوازه في كل حالة.
(رابعها) لا يجوز للمعتكف الخروج من معتكفه إلا لضرورة، كعلاج مرض ونحوه، ولقضاء الحاجة التي لا بد منها، فإذا خرج فليرجع عند انتهاء حاجته وزوال ضرورته وليبن على ما مضى من اعتكافه. ورخص بعضهم له عيادة المريض وشهود الجنازة. وبعضهم قيد الرخصة بالنفل لا بالاعتكاف الواجب. وبعضهم جوز له الاشتراط بالخروج من معتكفه للعيادة وقضاء الحوائج، وله الخروج لصلاة الجمعة، ومتى اجتمع واجبان أحدهما أوكد من الآخر قدم الآكد منهما.
(خامسها) يفسد الاعتكاف إذا أتى بمعصية كبيرة، لأن ترك ما حرم الله عليه أعلى منازل الاعتكاف، فإذا انتهكه انخرمت عبادته، ويندب الدخول في الاعتكاف بعد صلاة الفجر، والله أعلم.
(سادسها) الجماع يفسد الصوم ويوجب الكفارة، وهي عتق رقبة، فمن لم يجدها صام شهرين، فمن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وفي الكفارة على المرأة المختارة خلاف أصحه عدم الوجوب، ومع الإكراه لا كفارة عليها قولاً واحداً، ولا تجب الكفارة بغير الجماع أو الإنـزال بالمساحقة.
(سابعها) من طلع الفجر عليه وهو مجامع فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة في قول مالك والشافعي وأصح أقوال الحنابلة، لأنه ترك صوم رمضان بجماع أثم به لحرمة الصوم. وقال أبو حنيفة بوجوب القضاء دون الكفارة لأنه وطئ لم يصادف صوماً صحيحاً.
(ثامنها) النـزع حين طلوع الفجر، قال بعضهم تجب الكفارة فيه، لأنه يتلذذ به كما يتلذذ بالإيلاج. وقال الأكثرون: ليس فيه كفارة لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به شيء. وقال مالك يبطل صومه ولا كفارة عليه، لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله في ترك الجماع فأشبه المكره، وهنا هو الصحيح ولا وجه لوجوب الكفارة عليه أبداً، بل عليه أن يمسك وصومه صحيح.
وهذه المسألة من مضحكات المعترضات، ولولا تدوينها في أشعار الفقهاء ومتونهم وشروحهم لما تعرضت لها بالذكر، ولكن قال الإمام الموفق في المغني:(وهذه المسألة تقرب من الاستحالة، إذ لا يكاد يعلم أول طلوع الفجر على وجه يتعقبه النـزع من غير أن يكون قبله شيء من الجماع فلا حاجة إلى فرضها والكلام فيها).
وقوله سبحانه وتعالى: (كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) معناه أن الله كما بين لكم أحكام الصيام وما قبله من مشروعية أكل الطيبات وتفصيل القصاص ومشروعية الوصية، وما أوضح لكم قبله من حقيقة التوحيد وكشف المخالفين له من المنافقين واليهود، وإيضاح ما قام به إبراهيم من الوفاء بالتكاليف المهمة التي جعله الله بها إماماً للناس، وفضيحة مفتريات اليهود والنصارى بزعمهم اتباعه والانتساب إليه، وهم أبعد الناس عن دينه الإسلامي،وما أقامه من الدلائل الواضحات على ألوهيته سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك من تركيز العقيدة، فإنه سيبين آياته للناس.
والآيات هي العلامات الهادية إلى الحق مما شرعه الله لإصلاح قلوب الإنسانية وتوجيهها إلى الصراط السوي. يعني فكما بيَّن لكم في أوائل هذه السورة من أسراره في خلقه ومعالم دينه إلى فرضية الصيام بهذا البيان الواضح الوافي، فكذلك يبين الله آياته للناس (لعلهم يتقون) يعني أن المقصود الأعظم من تكاليف الدين وتشريعاته في وحيه المبارك وإخباره عما جرى على الأمم من العقوبات، ليتقوا عذاب الدنيا والآخرة، باجتناب المعاصي، والكف عنها، وامتثال المأمور، والحرص على أدائه بوجه صحيح.
وهذا التعبير بالتقوى في ختام هذه الآية مشعر بأن المراد من تشريعات الإسلام هو التقوى من كل الوجوه، فإن في التزامها كبح لجماح النفس، وكسر لشهوتها، وقمع لأهوائها، وردع لها عن الأشر والبطر والفواحش، كما أن في التزامها ورعايتها احتقار وتهوين للذات الدنيا ورئاستها، وعلى الأخص في الصوم، فإنه يورث التقوى، لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى، ومغالبه الشهوات، ومجاهدة النفس على ترك مألوفاتها ومحبوباتها التي يتفانى الإنسان في تحصيلها، كما قيل في المثل السائر:(المرء يسعى لغاوية). فالصوم يسهل على أهله اتقاء الله بترك مألوفاتهم ومحبوباتهم الغالية، وإذا سهل عليهم اتقاء الله بذلك كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أخف وأسهل.
وقد جاء النص بحصول التقوى معدى بحرف (لعل) المفيدة الترجي، لأن الملتزم شرائع الله يقوى رجاؤه في التقوى لفعله أسبابها، فالتزام عبادته في الصوم وغيره من تنفيذ المأمور جامع لأسباب التقوى، ولهذا ختم الله آية الأمر بعبادته على الإطلاق بالتقوى في قوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون). وختم آيات القصاص بقوله: (لعلكم تتقون) وختم الآية الأولى من فرضية الصيام بذلك، ثم ختم موضوع الصيام بقوله (لعلهم يتقون).
[1] سورة البقرة: 187.
[2] سورة البقرة: 286.
0 التعليقات: